الشيخ محمد الفحام
حدث الإسراء والمعراج منهج عقيدة  ودوحة سلوك

حدث الإسراء والمعراج منهج عقيدة ودوحة سلوك

بقلم: الشيخ محمد الفحام

كُتبت منذ شهرين

شارك المقال عبر :

بسم الله الرحمن الرحيم 

 الحمدُ لله الذي رَفَعَ السَّماءَ بلا عَمَد، وبَسَطَ الأَرضَ على ماءٍ جمد ، وأَمَدَّ عبدَهُ الصادِقَ الأَمينَ بِكُلِّ أنواعِ الْمَدَدِ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومَنْ والاهُ بلا عَدَد.

وأشهدُ أَنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحْدَهُ لا شَريكَ له قَضَى وقَدَّرَ، ورَفَعَ أَحَبِّ خَلْقِهِ إليه بِعُلُوِّ القَدْر، وأَشهدُ أَنَّ سيدَنا محمَّداً عبدُهُ ورسولُه أَعطَاهُ ونَصَرَهُ ويَسَّر؛ ﷺ صلاةَ وسَلاماً ما تَعاقَبَ الجديدان، وتَتَابَعَ القَمَرانِ صلاةً دائمةً بدوامِ مُلْكِ الله، وبعد؛ فإنَّ الكلامَ عن معجزاتِ النَّبيِّ الأكرمِ ﷺ كلامٌ عن خصائِصِهِ الشريفَةِ، وبيانِ نُبُوَّتِهِ بالْمَعْرِفَة، أجل إنها عونُ اللهِ تعالى الذي لا يُرَدُ ولا يُحَدُّ، 

هذا؛ وحَرْفُنا اليومَ نقاطٌ لَوامِعُ مُنيرةٌ عن واحِدَةٍ منها جَسَّدَتْ به مَنْهَجَ عقيدةٍ ودوحاتِ سُلوك، إنَّها معجزةُ الإسراءِ والمعراجِ تلك التي صَوَّرَتْ بِبَيانٍ خالدٍ مُعجِزٍ حُجَّةً دامِغَةً وقوةً ماضِيَةً فقال تعالى : (سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلاً مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ) الإسراء/١ 

لِنَعْلَمْ أنَّ حَدَثَ الإسراءِ والمعراجِ عَطاءٌ لِلْأُمَّةِ مُتَجَدِّدٍ بِبَرَكَةِ نَبِيِّها الأعظمِ عليه الصلاة والسلام، ذلك أنَّ أنَّ الْمُرَبِّيَ على الحقيقَةِ إنَّما هو الرَّبُّ الجليلُ المالِكُ لِلْمَنْعِ والعطاءِ، والشِّدَّةِ والرَّخاء. ولَمَّا قَضَتْ حِكْمَةُ اللهِ تعالى أَنْ يكونَ مَظْهَرَ التَّفاعُلِ فيما قَدَّرَ مِنَ التيسيرِ بعدَ التَّعْسيرِ، سَيِّدُ الوجودِ سيدُنا محمدٌ ﷺ كانَ هو الأُسْوَةَ السَّامِيَةَ التي رَقَتْ إلى عَلْياءِ الْمعارفِ ، ومَعارجِ العبوديَّةِ الخالِصةِ لِيَرْجِعَ بِتُحَفِ السَّماءِ الخالِدَةِ.

قارئي العزيز! إنَّهُ ما مِنْ نَتيجَةٍ إلَّا ومُنْطَلَقُها مُقَدِّمَةٌ هادِفَةٌ، والنتائجُ مَرهونَةٌ بِمَقِّدماتِها، ولِكُلِّ عَمَلٍ سليم نَتيجَةٌ حميدة، وهذا هو الذي بَرَزَ في دَعوَةِ السَّيِّدِ الأعظَمِ ﷺ قومَهُ إلى الإسلامِ السَّنواتِ الْمُمْتَدَّةَ في مكةَ صابراً مُحْتَسِباً يُعاني شِدَّةَ إيذائهم وحُمْقَ رَدِّهِمْ، وعَجيبَ إنكارِهِمْ. حتى إذا ما يَئِسَ مِنْ إقبالِهِمْ وقَبُولِهِمْ، لم يَيْأَسْ مِنْ رحمةِ ربِّه سبحانه وعَونِهِ في أنْ يُحَرِّك قلوبَ غيرِهمْ، فَتَوَجَّهَ إلى الطائفِ طامِعاً في قَبُولِ أهلِها للإسلامِ راجياً أنْ يَحْمِلُوا معهُ أَعباءَ الدَّعوَةِ، فَيُبَلِّغُوا الرسالةَ في رحابِهِ، لكِنَّهُ فُوجِئَ منهمْ بما لم يكُنْ بالحُسْبان!؟ تأبَّوا عليه، وقابَلُوهُ بالاسْتِخْفافِ والإيذاء، ثم واجَهُوهُ بالاستهزاءِ؛ فَمِنْ قائلٍ: إِنَّهُ يَمْرُطُ ثيابَ الكعبةِ إنْ كانَ اللهُ أَرسَلَكَ. ومِنْ قائلٍ: أَمَا وَجَدَ اللهُ أَحَداً يُرْسِلُهُ غَيرَك، ومِنْ قائلٍ: واللهِ لا أُكَلِّمُكَ أَبَداً، لَئِنْ كُنْتَ رسولاً مِنَ اللهِ كَمَا تقولُ لَأَنْتَ أَعظَمُ خَطَراً مِنْ أَنْ أَرُدَّ عليكَ الكلامَ ، ولَئنْ كُنْتَ تَكْذِبُ على اللهِ، فَمَا يَنْبَغِي لي أَنْ أُكَلِّمَكَ عشرةَ أيَّامٍ في الطَّائفِ، يَتَنَقَّلُ مِنْ جَمْعٍ إلى آخَرَ يَدعوهُمْ إلى اللهِ وهُمْ صُمٌّ بُكْمٌ قد عَمِيَتْ بصائرُهم قبل بَصَرِهِمْ، فَما نَفَعهُمْ قالَبُهُمْ لِظُلمة قَلبِهِمْ بالعِنادِ بعدَ ردِّهِمُ الحَقَّ الأَبلجَ، فلا غَرابَةَ بعدَ ذلِكَ أنْ يَنْحَدِروا إلى مُستوى السَّفَهِ الْمَقيتَ ما تَخَطَّى كُلَّ مَساوِئِ الأَخلاقِ حيثُ أَجْمَعُوا على إذائهِ بِضَرْبَةٍ كاسِرَةٍ وتَعثيرٍ صارخٍ، أَغْرَوْا سُفهاءَهُمْ وعبيدَهم يَسُبُّونَهُ ويَصيحُونَ به حتى اجْتَمَعوا عليه، ثم قَعَدُوا له صَفَّيْنِ في طَريقِ خُروجِهِ يَضْرِبُونَهُ بالحِجارَةِ لا يَرْفَعُ رجُلاً ولا يَضَعُ أُخرى إلَّا رضَخُوها بالحِجارَةِ حتى أَدْمَوْها، وهُمْ مع ذلِكَ يَضْحَكُونَ، فَشَجُّوا رأْسَهُ عِدَّةَ شِجاجٍ، وسالَ الدَّمُ منه ما أَلْجَأَهُ إلى حائطٍ هناكَ يَرْكَنُ إليهِ لِلتَّخفيفِ عمَّا بَلَغَهُ مِنْ شِدَّةِ الأَلَمِ، والوَهْنِ الذي أصابَهُ لِكَثْرَةِ ما سالَ مِنْ دَمِهِ الشَّريف..... ولَمَّا انْحَسُروا عنه تَوَجَّهَ إلى مَنْ كَلَّفَهُ بِتَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ -وقد أَدَّى الأمانَةَ- يَجْأَرُ إلى الله سبحانه بكمالاتِ العُبودِيَّةِ وخالِصِ التَّجَرُّدِ داعِياً إيَّاهُ؛ 

(إلهي! إليكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتي، وقِلَّةَ حِيلَتي وهَواني على النَّاسِ، يا أَرحَمَ الرَّاحِمينَ! أنتَ ربُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وأنتَ ربي. إلى مَنْ تَكِلُني! إلى بَعيدٍ يَتَجَهَّمُني أَمْ إلى قَريبٍ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي. إنْ لم يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلا أُبالي، ولكِنَّ عافِيَتَكَ أَوْسَعُ لي. أَعوذُ بِنُورِ وجهِكَ الذي أَشْرَقَتْ له الظُّلماتُ وصَلَحَ عليه أَمْرُ الدنيا والآخِرَةِ مِنْ أنْ تُنْزِلَ بي غَضَبَكَ، أو يَحُلَّ عليَّ سَخَطُكَ لكَ العُتْبى حتى تَرْضَى ولا حولَ ولا قُوَّةَ إلا بِكَ). 

أُسائلُ نَفْسِي، ترى متى يَرْتَقِي الإنسانُ إلى مُستوى اليَقينِ؟ تَدَبَّرْتُ، وتأَمَّلْتُ فَأَدْرَكْتُ أنَّهُ في كُلِّ ما كانَ يَتَمَتَّع به صاحِبُ الحَدَثِ ﷺ فَكُلُّنا نَحْفَظُ عن ظَهْرِ قَلْبٍ حَرفَ مَلَكِ الجبالِ ، لكنْ هلِ اسْتَقْرأْنا ما تحتَ حَرْفِ عَرْضِهِ؟  إنَّها تلكَ الْمعاني التي أَفْرَزَتْ ثمراتٍ يانعاتٍ بِرُؤْيَةٍ بصيريَّةٍ مُسْتَقْبَلِيَّةٍ هادِفَةٍ مِنَ الهادي الكَريم ﷺ تُتَرْجِمُ بيانَ اللهِ تعالى الخالد : (وَمَا يُلَقَّىٰهَآ إِلَّا ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّىٰهَآ إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)، تلكَ التي تَجَلَّتْ على مَلَكِ الجبالِ الذي نَزلَ يأْتَمِرُ بأَمْرِهِ لو شاءَ ﷺ أنْ يُطْبِقَ عليهم الأَخْشَبَيْنِ -جبلَيْ مَكَّةَ- أَثْمَرَتْ (بل أَرجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصلابِهِمْ مَنْ يَعبُدُ اللهَ وحْدَهُ ولا يُشْركُ به شيئاً)، ما دَفَعَ الملكَ أَنْ يقولَ: أنت كَمَا سَمَّاكَ ربُّكَ رؤوفٌ رحيم.

وفي روايةٍ؛ قال رسولُ اللهِ ﷺ لِمَلَكِ الجبالِ: (أُؤَخِّرُ عن أُمَّتي لَعَلَّ اللهَ أنْ يَتوبَ عليهم).  وعليه؛ فكانَ مِنْ ذلِكَ الوُجْدانِ النَّبَوِيِّ أَنْ جاءَتْ ضِيافَةُ الرَّحمنِ إلى عَلْياءِ الدَّرجاتِ، وعِنْدِيَّةِ الْمَكانَةِ تَعبيراً عن أَهْلِيَّتِهِ وسُمُوِّ روحِهِ، وأَنَّ كُلَّ مَنْ يكونُ على قَدَمِهِ في المنهجِ والسُّلوكِ سَينالُهُ مِنَ الأَنوارِ ما نالَهُ ، ومِنْ مَعينِ ما تَلقَّاهُ عليه الصلاةُ والسلامُ يَتَلَقَّاهُ.  واسْمَعِ الآنَ إلى ما قالَهُ جبريلُ لِلْبُراقِ مَركَبِ الأنبياءِ لَمَّا قَدَّمَهُ لخاتمِهم صلى الله عليه وعليهم أجمعين. ففي الصحيحِ وغَيرِهِ يقولُ عليه الصلاةُ والسلامُ : (فَأَخَذَ بِعَضُدَيَّ -أي:  سيدُنا جبريلُ-، فَقُمْتُ معهُ، فَخَرَجَ إلى بابِ المسجدِ، فَإذا دابَّةٌ أبيضُ دونَ البَغْلِ وفوقَ الحِمارِ طويلةُ الظَّهرِ طويلةُ الأُذنينِ... 

قال ﷺ: (فَلمَّا دَنَوتُ منه لِأَرْكَبَهُ شَمَسَ -نَفرَ وجَمَحَ-، فَوضَعَ جبريلُ يَدَهُ على مَعرِفَتِهِ، ثم قالَ ألا تَسْتَحِي يا بُراقُ مِمَّا تَصْنَعُ؟ فواللهِ ما ركِبَكَ عَبْدٌ للهِ قَبْلَ محمدٍ أكرمُ على الله منه...

قال ﷺ : (وكانتِ الأَنبياءُ تَرْكَبُهُ قَبْلي، فاسْتَحْيا -أي : البُراقُ- حتى ارْفَضَّ عَرَقاً، ثم قرَّ، فَحَمَلَني عليه أي: وانْطَلَقَ إلى بيتِ المقدسِ) 

نعم! فَسُمُوُّ العبدِ مَقْرونٌ بِشُهودِهِ حكمةَ مَولاهُ في كُلِّ ما قَضاهُ، أَنَّ كلَّ مَقْدورٍ يَكْمُنُ في طَيَّاتِهِ حِكْمَةٌ جليلةٌ تَظهرُ ثمراتُها في العاجِلَةِ سعادةٌ مِنْ نوعٍ آخَرَ، وفي الآجِلَةِ مُسْتَقَرُّها مِنْ نعيمِ الأَبَدِ الذي لا يَشْتاقُ إلَّا إلى الْمُتَّقِين. أما بعد؛ (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكۡرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُۥ قَلۡبٌ أَوۡ أَلۡقَى ٱلسَّمۡعَ وَهُوَ شَهِيدٌ).