بقلم: الشيخ محمد الفحام
كُتبت منذ شهرين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، المقصودِ في كلِّ المطالبِ بالتسليم، والصلاة والسلام على مَن خُصَّ بالكمالات والتكريم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له بلَّغ _بفضلِه العميم_ نداءَ الخليل إبراهيم للحجِّ إلى بيتِه العظيم، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله خيرُ مَن أبرزَ الخضوعَ والخشوعَ في رحاب الحرم والملتزم والحَطيم، صلى الله وسلم وبارك على ذلك الإنسان الكامل الذي سما في معارج المعارف بجلال الانقياد لربه الأجلِّ الذي أدَّبَه فأحسنَ فيه التأديبَ والتعليم، وعلى آله وصحبه وتابعيهم بإحسان إلى يومِ يُعرَضون على ربهم الكريم بذلك القلب الزاكي السليم، وبعد؛
فيقولُ الجليل في بيانه العظيم حاكياً حالَ خليله إبراهيم: ﴿رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيۡرِ ذِي زَرۡعٍ عِندَ بَيۡتِكَ ٱلۡمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱجۡعَلۡ أَفۡـِٔدَةٗ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِيٓ إِلَيۡهِمۡ وَٱرۡزُقۡهُم مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ لَعَلَّهُمۡ يَشۡكُرُونَ﴾ [إبراهيم:37] فخليلُ الرحمن بيانٌ جليلٌ في معهد التوحيد على مَقام الحبِّ الخالص المترجِم لسلامةِ القلب عَبْرَ انقيادٍ فريدٍ للأمرِ الإلهي دون تردُّدٍ أو تلَفُّت، يؤمَرُ بإيداعِ فلذة كبده المنتظرة وأُسْرَتِه المرتقبة في وادٍ غيرِ ذي زرع فيُطيعُ باستكانةٍ لافتة وهدوءٍ آسِر، وهِمَّةٍ ماضية.
أجل؛ ذلك أنه أودعَ ثم ناجى ﴿رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي﴾ أَسْكَنْتُ مِن السَّكن وفي رحاب اللطف الإلهي السكينة وإنْ في ﴿بِوَادٍ غَيۡرِ ذِي زَرۡعٍ﴾ لأنه عنده أي في بيتِه المحرَّم وهل ساكنُ بيت الله يُضام؟؟! لسانُ الحال منه يا رب أنت المطعِمُ والمنْعِمُ والممِدُّ فمَن أدرك رحماتِ ربه أدرك كلَّ شيء، ومن فاته اللهُ فاته كلَّ شيء﴿رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ﴾ وذلك هو المقصِد ُالأسنى، ومِن المعلوم أنَّ المؤمنَ بالمؤمنِ ضياءٌ ممتد لذا رجا بقوله: ﴿فَٱجۡعَلۡ أَفۡـِٔدَةٗ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِيٓ إِلَيۡهِمۡ﴾ إنَّه الحبُّ الذي به يَغْمُرُ الكونَ بنورِ الإيمان بالمكوَّن، لذا كانت مناجاتُه من وراء الوادي تحقيقاً لمقامِ التفريدِ في نِظامِ عقيدةِ التوحيدِ، وإِظهاراً لذلك الرسوخ بالمعنى الذي لا يعرف حقيقتَه إلا المؤمنُ الذي أَيْقَنَ أنَّ ما أصابَه لم يكن ليُخطِئَه وأنَّ ما أَخْطأَهُ لم يَكُنْ لِيُصيبَه.
أجل؛ من وراء الوادي في ظلال الجلالِ يَنْفُذُ نورُ الجمال!! أجل؛ وإلا فلِمَ كان ذِكْرُ الفؤادِ في مَعْرِضِ أداءِ المهمة بالرجاء؟ من أجل أنْ يعلم أنه الحالُ الذي به تجسيدُ المرتقى لمِعَالي المعارف الإلهية التي تُجلِّي مَفْهُومَ منهجِ الأنبياء في نظام الشعور بالمسؤولية على التجرُّدِ مِن حظوظِ النفس والتَّخلِّي عن الأَنا وذلك هو مُنْطلقُ السَّعادَةِ الغامرة للعَبْد حيثما حَلَّ وارتحل، ولا أجلى لهذه الحقيقة مِنْ ذلكم الحوار بين الخليل وأمِّ إسماعيل، ففي البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءَ إبراهيم ﷺ بأمِّ اسماعيل و بابنها إسماعيل وهي تُرضِعُهُ حتى وضَعَها عند البيت عند دوحةٍ فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذٍ أحدٌ وليس بها ماءٌ، فوضَعَها هناك ووضعَ عندهما جِراباً فيه تمرٌ وسقاءً فيه ماءٌ، ثم مضى إبراهيمُ مُنْطَلِقاً فتَبِعَتْهُ أمُّ إسماعيل فقالت: يا إبراهيمُ أين تذهبُ وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيسٌ ولا شيء فقالت ذلك مِراراً، وجعل لا يَلْتَفِتُ إليها، قالتْ له: آللهُ أَمَرَكَ بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً لا يضيّعنا-وفي رواية: نادتْه من وراء الوادي: يا إبراهيمُ إلى مَن تتركُنا؟ قال: إلى الله، قالت: رضيتُ بالله ثم رجعتْ، فانطلقَ إبراهيم ﷺ حتى إذا كان عند الثَنِيَّةِ حيث لا يَرَوْنَهُ استقبلَ بوجهه البيت دعا بهؤلاء الدعوات فرفع يديه فقال: ﴿رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيۡرِ ذِي زَرۡعٍ عِندَ بَيۡتِكَ ٱلۡمُحَرَّمِ .... يَشۡكُرُونَ﴾. أقول: ففي رحابِ قوله ﴿لَعَلَّهُمۡ يَشۡكُرُونَ﴾ تذكيرٌ بشهودِ المنعم فيما أَنْعَمَ مِن يُسْرِ العِبادةِ والشعور بمراسِم العبودية مع اليقين بالوعد المقدور في الآجلة لأنَّ الواعِدَ اللهُ وكفى بها رابطةً وثيقةً بين الأرضِ والسماء.
فالمؤمِنُ يَنْتَظِرُ بعد شدَّته رخاءً، وبعد ابتلائه أمناً وأماناً لأنّه ينقادُ للأمر طواعيةً بالأدب والإحسان والمراقبةِ للديَّان مع الرضى بما يقضيه للإنسان لأنه لما قال: ﴿وَلَنَبۡلُوَنَّكُمۡ﴾ وَعْدٌ بِالْفَرَجِ بما هو أهلُه، فقد دعا إبراهيمُ بعد ائْتِمارِه بأمرِ الله تعالى الذي أَمَرَهُ بإيداعِ الأمِّ وولدها بين يدي الموعود به من البيت المحرم، وأنَّ المكانَ القَفْرَ ذاك سيغدو بحُرْمَةِ المؤمِنِ مُنْطلقَ اللقاءِ على الله تعالى على أثير مهوى الفؤاد بنور الإيمانِ والتصديق والانقيادِ لقضاءِ الله وقَدَرِهِ بزكاةِ النفسِ وصفاءِ القلبِ، فكان ما كان مِن الموعودِ الحق بنور ذلك الحقِّ.
ألا إخوتي الأحبة؛ إنه لما كانَ الآمرَ اللهُ والمأمورَ أهلُ الإيمان والرَّشاد كان ذلك التماسُك والتسليم، وإني لأرى في إبراهيمَ عليه السلام وأسرتِه المباركة مثالَ الأسرةِ المسلمة الصادقة مع ربِّها في السرَّاء والضَرَّاء، المتماسكة في البلاء على أُسُسِ العقيدة لِقطاف الثِّمار العاجلة والآجلة، في مقدمة ذلك الفَهْمِ عن الأنبياء الذين ما أُرْسِلوا إلا لِسعادةِ الإنسانية والارتقاء به إلى أعلى مستويات الشعور بالمسؤولية التي حُمِّلَها الإنسان أماناتٍ خطيرة وودائعَ جليلة فهو المستأمَنُ على الحرُمات.
وهذا ما نحتاج إلى استحضاره نحن أهلَ الشام الذين شُرِّفنا بالنسبة النبوية من السيد الأعظم ﷺ ما دُمْنا شاميِّين معتزِّين بشاميَّتِنا كأجدادِنا الربانيِّين حيث قال سيِّدُهم يومَها وقد سُئِلَ: هل صحيحٌ أنك ستغادِرُ البلاد؟ : أنا كهذه الصخرة الراسية في تخوم قاسيون لا أَخْرُجُ مِنْ هذه البلدة إلا اقتلاعاً، إنه سيدي الوليُّ العارف الشيخُ مُلا رمضان رحمه الله الذي جَعَلَ حُبَّ الشام يَسْرِي في أوصال مريديه وأبنائِه ومحبِّيه أَثْمَرَ مَتْناً جَليلاً على لسان علّامَةِ الشامِ ولدِه سيدي الشهيد السعيد حيث قال: أنا أَعْتَزُّ بأنَّني في المكان الذي تَغَزَّلَ به رسولُ اللهِ ﷺ.
فأقول: صَبْراً أهلَ الشام صَبْرَ المحتسبين، فلو عَلِمْتُمْ ما خَبَّأَ اللهُ تعالى لبلدِكُمْ مِن الخيراتِ والبركات لَعَمَّقْتُمْ جذوركم في طوايا تُرْبَتِها أكثرَ فَأَكْثَر.
أجل أجل؛ صبرَ المنتظرين للفرج ففي طياته المفرحاتُ بإذن الله تعالى ذلك أنَّ المشرِّف لهذه البلدة ﷺ قال: ((الشامُ صفوةُ اللهِ مِنْ بلاده إليها يَجْتَبِي صَفْوَتَه مِنْ عِبادِه فَمَنْ خَرجَ مِنَ الشام إلى غيرها فبِسُخْطِه، ومَنْ دَخلَها مِنْ غيرها فبرحمته)) (الطبراني والحاكم).
واعلموا أهلَ الشام أنَّ أولياءَ اللهِ في الشام راسخون رسوخَ جبالها، ولَيَأْتِيَنَّ اليومُ الذي يَظْهَرُ فيه فضلُها بموعود مَن لا ينطق عن الهوى ﷺ ...ألا وإنَّ الأمْنَ و الأمانَ -إذا كثرت الفتن- في الشام.
يا أهل الشام؛ نبيُّكم الأعظم ﷺ يقول: ((إذا فسَد أهلُ الشام فلا خيرَ فيكم، لا تزال طائفة مِن أمتي منصورين لا يَضُرُّهم مَنْ خَذَلَهُمْ حتى تقومَ الساعة)) (الترمذي: صحيح)
وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جَدِّهِ رضي الله عنهم ونحا بيده نحو الشام.
فكونوا يا أهل الشام كتلك الأسرة التي أَعْلَنَتْ أمُّها بعقيدةٍ راسخةٍ إذاً لا يضيعنا الله ولا تكونوا من الذين أدبروا فأبعدهم الله حيث خرجوا منها إلى غيرها بِسخطه.
فاللهم الثباتَ الثباتَ لئنْ ابْتَلَيْتَ فَقَدْ عافَيْت، ولَئِنْ أَخَذْتَ فَقَدْ أَعْطَيْت.
أما بعد؛ ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكۡرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُۥ قَلۡبٌ أَوۡ أَلۡقَى ٱلسَّمۡعَ وَهُوَ شَهِيدٞ﴾ [ق:37]