الشيخ محمد الفحام
من جوامع الكلم النبوي |322

من جوامع الكلم النبوي |322

بينَ مَدْخَلِ نَجاتِها وخَطَرِ هَلاكِها

كُتبت منذ شهر

شارك المقال عبر :

عن عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاص قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: 
«نَجاءُ أَوَّلِ هذه الأُمَّة باليَقِينِ والزُّهدِ، ويَهْلِكُ آخرُها بالبُخْلِ والأَمَل» 
      | ابن أبي الدنيا الجامع الصغير |٩٢٨٢|   

•نجاءُ أَوَّل هذه الأُمَّةِ؛ مِنَ الصَّحابَةِ وتابِعيهِمْ بإحسان، ومَنْ داناهُمْ مِنَ السَّلَفِ الصَّالحينَ الْمُجَدِّدِينَ عَصْرَ الأَوَّلِينَ بالأَقوالِ والأَفعالِ، وكذا الأَحوال. 
باليقين؛ الْمُتَرْجِمِ لِكمالاتِ التُّقَى وتمامِ الإيمانِ بدوامِ زيادَتِهِ الْمُرَقِّي صاحِبَهُ في معارجِ الْمَعارف، ومفاهِيمِ أَهلِ التَّمْكِينِ بجوهر شريعة سيد المرسلين ﷺ. 
مِنْ أَجلِ ذلكَ حَرِصَ السَّيدُ الأَعظمُ ﷺ على الأُمَّةِ مِنْ الوقوع في ضَعفِ اليَقِين، فقال ﷺ فيما أَخْرَجَهُ الطبرانيُّ في الأَوْسَطِ بِسَنَدٍ رجالُهُ ثِقاتٌ: «أَخْوَفُ ما أَخافُ على أُمَّتي ضَعْفُ اليَقِين»   
هذا؛ وقد عَرَفَ اليَقِين: بأَنَّهُ {رؤْيَةُ العِيانِ بِقُدْرَةِ الإيمان}، وقال الإمامُ الجُنَيْدُ رضي اللهُ تعالى عنه: {اليَقِينُ: استقرارُ العِلْمِ الذي لا يَنْقَلِبُ ولا يَزولُ، وإيثارُ الحَقِّ الذي لا يَتَغَيَّرُ، ولا يُحَوَّل. اليقينُ: رُؤْيَةُ العِيانِ بِقُدْرَةِ الإيمان}

•والزهد؛ هو في اللغة؛ تَرْكُ الْمَيْلِ إلى الشَّيءِ، وفي الاصطلاح؛ هو بُغْضُ الدنيا والإعراضُ عنها، وقيل: هو عُزوفُ النَّفْسِ عن الدنيا مع القُدْرَةِ عليها لِأَجْلِ الآخِرَةِ خَوْفاً مِنَ النَّارِ وطَمَعاً في الجَنَّةِ، أو تَرَفُّعا عن الالْتِفاتِ إلى ما سِوى اللهِ تعالى، ولا يكونُ ذلك إلَّا بعدَ انْشِراحِ الصَّدْرِ بِنُورِ اليَقِين.    
ولِْيُعْلَمْ أَنَّ الزُّهدَ بَريدُ الحبِّ الإلهيِّ والذِّكْرِ الحَميدِ لِصاحِبِهِ في الْمَلأ الأَعلَى والأَدْنى، فَقد جاءَ رجلٌ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يارسولَ اللهِ! دُلَّني على عَمَلٍ إذا عَمِلْتُهُ أَحَبَّني اللهُ، وأَحَبَّني النَّاسُ، فقال: «ازْهَدْ في الدنيا يُحِبَُّكَ اللهُ، وازْهَدْ فيما عندَ النَّاسِ يُحِبَُّك النَّاسُ» |ابن ماجه وغيره بأسانيد حسنة| 

•ويَهْلِكُ آخرُها؛ أَي: يَكادُ يَهلِكُ آخِرُ هذه الأُمَّةِ بِعَكْسِ ما كانَ عليه أَوَّلُها، ولَعَلَّ ذلكَ لِلإِشارَةِ إلى أَنَّهُ لا يَصْلُحُ آخِرُها إلَّا بِما صَلَحَ به أَوَّلُها مِنْ كَمالاتِ الْمَكارِمِ، وحميدِ الصِّفاتِ لِلْعِلْمِ بأَنَّ هنالِكَ مِنْ آخِرِ الأُمَّةِ مَنْ يَبْقَوْنَ على ما عليه أَوَّلُها بِثباتٍ قَلَّ نَظِيرُه كَمَا أَشارَ مَنْ لا يَنْطِقُ عنِ الهَوى عليه الصلاةُ والسلامُ بقولِهِ: «أُمَّتِي مِثْلُ الْمَطَرِ لا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيرٌ أَمْ آخِرُهُ» لِأَنَّ الْمُرادَ بَعضُ الأُمَّةِ. كما أشارَ الحافظُ المناوي رحمه الله تعالى. يَشْهَدُ لِذلكَ حديثُ النَّبِيِّ ﷺ: «لا تَزالُ طائفةٌ مِنْ أُمَّتي قَوَّامَةً على أَمْرِ اللهِ لا يَضُرُّها مَنْ خالَفَها». |ابن ماجه بسند صحيح|

•بالبُخْلِ والأَمَلِ؛ أي: الاسترسالُ فيهما، وهو التَّمادِي في التَّعامُلِ مع الدنيا إلى مُسْتَوى الحِرْصِ وطُولِ الأَمَلِ بالعَيْشِ الْمَديدِ ونِسْيانِ الموت، ذلك أنَّ الحِرْصَ دليلٌ على الخَوفِ مِنَ الفَقْرِ، فَيكفِي علامةً على الشَّكِّ بالرزّاقِ وعَدَمِ الرِّضَى بِما قَسَمَ له سبحانه، وذلك مِنْ نَقْصِ الإيمان، وطول الأمل دليلٌ على تَعَلُّقِ القَلْبِ بالسِّوَى، وذلِكَ هو الحِجابُ الظُّلماني لِلْعِلْمِ بأَنَّ الأَمَلَ بِسِوى اللهِ تعالى مَمْنُوعٌ مَمْقُوتٌ لِعِلَّةِ الارتباطِ بالوَهْمِ والسَّرابِ ولأَنَّهُ لا مُعْطِيَ ولا مانِعَ، ولا نافِعَ ولا ضارَّ إلا اللهُ تعالى، وأنه هو الْمُحيي والْمُمِيتُ وأَمَّا أَمْرُ التَّعامُلِ مع الخَلْقِ ومسار الحياة في دنياها، فَإِنَّما هو مَنْهَجٌ تَكْلِيفِيٌّ مِنْ قِبَلِ الآمِرِ النَّاهِي سبحانه، فَلِأَجْلِهِ نَعملُ، ومِنْ أَجْلِهِ نَتَفاعَلُ أَمَلاً في تحقيقِ مَرْضاتِهِ، ثم الوصولِ إلى دارِ السَّلامِ بسلام على الخاتمةِ الحَسَنَةِ واللِّقاء المحمود في «مَنْ أَحَبَّ لِقاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقاءَهُ»، وهذا هو الأَمَلُ الْمَحمود. جَعَلنا اللهُ تعالى مِنْ أَهْلِهِ، ويَسَّرَ لنا سبيلَهُ وبُلوغَ مِحْرابِهِ بِنُورِ اليَقينِ، وحِصْنِ الإيمان.