عَشْرُ الخَيرِ مِنْ شَهرِ الخَيرِ
كُتبت منذ 3 أسابيع
عن عائشةَ رضي اللهُ تعالى عنها قالتْ:
«كانَ رسولُ اللهِ ﷺ يَجْتَهِدُ في العَشْرِ الأَواخِرِ ما لا يَجْتَهِدُ في غيرِه»
| البخاري ومسلم واللفظ لمسلم |
·كان رسولُ اللهِ ﷺ؛ داخِلٌ كَلامُها هذا في جُمْلَةِ تَوْصِيفِ شمائلِ النَّبِيِّ ﷺ عن جانِبٍ مِنْ جوانِبِ عباداتِهِ في الْمَواسِمِ الْمُباركَةِ.
·يَجْتَهِدُ في العَشْرِ الأواخِرِ؛ أي: من رمضان تَنْبيهاً إلى شَرَفِ تلكَ الأيامِ معَ لياليها وعَظيمِ فَضْلِها، فَإِنَّ التَّجَلِّياتِ العُلْوِيَّةَ بِلطائفِها تَتَنَزَّلُ بلا حَدٍّ ولا عَدٍّ وبِمُشاركَةِ أَهلِ الْمَلَأ الأَعلَى بِصُنُوفِها مُتَتَالِيَةً تُشارِكُ الْمُتَبَتِّلينَ فيها، فَلا يُغادِرونَ راكِعاً ولا ساجِداً ولا ذاكِراً ولا تالِياً لِكتابِ اللهِ تعالى إلا وقد شاركوه تلك الْمُجالَسَةَ تَبَركاً وتَشَرُّفاً.
·ما لا يَجْتَهِدُ في غَيرِهِ؛ تقولُ السيدةُ عائشةُ رضي الله تعالى عنها -كما في رواية البخاري-: «كانَ رسولُ اللهِ ﷺ إذا دَخَلَ العشرُ الأخيرُ مِنْ رمضانَ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وأَحْيا لَيْلَهُ، وأَيْقَظَ أَهْلَهُ»
شَدَّ مِئْزَرَهُ: كِنايَةً عنِ اعْتِزالِ النساءِ للإشارةِ إلى تَفْريغِ القلبِ التَّفريغَ الخالِصَ توجيهاً لِلْأُمَّةِ وتَعليماً، فهو عليه الصلاة والسلام أُسْوَتُها الحَسَنَة.تقول السيدةُ عائشةُ رضي اللهُ تعالى عنها: «لَمْ يَأْوِ إلى فِراشِهِ حتى يَنْسَلِخَ رمضانُ».
قلت: إذا كانَ ﷺ على الكَمالِ في طاعَتِهِ لِرَبِّهِ عامَهُ كُلَّهُ، وإذا كانَ قَلْبُهُ لا ينامُ عن شهودِ مولاهُ لَحْظَةً مِنْ لَيْلٍ أو نهار، وإذا كانَ تَنامُ عيناهُ ولا ينامُ قَلْبُهُ، فَنَوْمُهُ لا يَنْقُضُ وضوءَهُ، لِأَنَّهُ مُعاذٌ مِنَ الغَفْلَةِ عن مَعْبُودِهِ -وإنْ نامَ-؛ فَما الزِّيادَةُ التي يُضِيفُها صلى الله عليه وسلم؛ أقولُ: واللهُ تعالى أَعلَمُ؟ إِنَّه الحُبُّ الغامِرُ لِلْمَعبُودِ الذي يَجْعَلُهُ في مِعراجِ الصِّلَةِ الدائمِ والارتقاءِ العامِر بذلِكَ الحُبِّ الغامِر، فَلا يَزيدُهُ إلَّا تَحَقُّقاً بالكمالِ الْمُطْلَقِ لِلْقَدْرِ الإلهيِّ، فَيرى واجِبَ العبدِ الذَّائقِ العارفِ بِرَبِّهِ الْمَعبود -وقد خَصَّهُ سبحانه بِما خَصَّه مِنْ أَنْوارِ النُّبُوَّةِ الخاتِمةِ وضِياءِ تَجَلِّياتِها تَتَوالى عليه وتُرَقِّيه- أَنْ يَمْلأَ جُلَّ أوقاته بِما يُتَرْجِمُ مَقامَ التَّفْريدِ في التوحيدِ لِيَأْخُذَ بِيَدِ الْمُؤْتَسِينَ به مِنْ أُمَّتِهِ إلى ساحَةِ الْمَعْرِفَةِ باللهِ عَبْرَ تلكَ الثَّوابِتِ النَّاهِضَةِ وصدقَ اللهُ العظيمُ حيثُ قال:
(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوْ اللهَ والْيَوْمَ الآخِرَ وذَكَرَ اللهَ كَثِيراً)
وخلاصةُ القول؛ إنَّ في ذلك توجيهاً نبوياً سامياً لِتْفريغِ الهِمَّةِ اسْتِعداداً لِكُلِّ لَيْلَةٍ تالِيَةٍ لا سيما الْمُفْرَدَة التي هي مَظِنَّةُ لَيْلَةِ القَدْرِ لا سيَّما لَيْلة السابعِ والعشرينِ لإحيائها بحياةِ القلوبِ التي رجعتْ إلى عَلَّامِ الغيوب قبلاً، وبِتِلْكَ التزكيَةِ الكريمةِ تَخْلِيَةً مِنْ أَجْلِ التَّحْلِيَةِ في وقْتٍ قد لا يُدْرِكُ غيرَهُ في قادِماتِ العُمرِ، وذلِكَ هو الاغتنامُ لِفُرَصِ الفَوْزِ التي قد لا تَتَكَرَّرُ، ولا تُدْرَكُ لاحِقاً بِسَبَبِ دَرْكِ الأَجَل .
فاللَّهُمَّ؛ بَلِّغْنا لَيلَةَ القَدْرِ بالْهِمَّةِ الْمُعِينَةِ، والحالَةِ الْمَقبولَةِ عندَكَ عَلَّها تَرْفَعُ لنا عندَكَ القَدْرَ، وتَتَجَلَّى عَلَيْنا بِما تَجَلَّيْتَ به على سيِّدِ الخلائقِ حبيبِكَ ورسولِكَ ونَجِيِّكَ سيدِنا محمدٍ ﷺ .